الرعاية الأمريكية للصراع الفلسطيني- تضليل وخداع أم حل عادل؟

المؤلف: د. أحمد العطاونة08.11.2025
الرعاية الأمريكية للصراع الفلسطيني- تضليل وخداع أم حل عادل؟

منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، يرزح الفلسطينيون تحت وطأة الرعاية الأحادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية للمفاوضات المضنية بينهم وبين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. فقد تمسكت واشنطن بشكل حصري برعاية ما يُعرف بمسار السلام الفلسطيني الإسرائيلي، مانعةً أي دولة أخرى من الاضطلاع بدور فعال ومؤثر في هذه العملية الحساسة، إلا في الحدود التي تخدم استراتيجياتها ومصالحها الخاصة.

على سبيل المثال، سمحت واشنطن للدول الأوروبية بالانخراط في مسارات بناء مؤسسات الدولة الهشة في كل من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، والتعاون المحدود مع مؤسسات المجتمع المدني، شريطة أن يخدم ذلك المسار المتعثر للتسوية السياسية، وألا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع السياسات الاحتلالية الإسرائيلية القائمة.

استمر هذا الاحتكار المشين للتسوية السياسية العرجاء وما صاحبها من مفاوضات عقيمة، بغض النظر عن طبيعة الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة أو الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وكأن الولايات المتحدة قد احتكرت القضية الفلسطينية المعقدة بكل تفاصيلها الدقيقة، حتى عندما تعلق الأمر بفصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة المصنفة على قوائم الإرهاب الأمريكية، وعلى رأسها حركة حماس.

فقد أبقت الولايات المتحدة هذا الملف الشائك بيدها بإحكام، وفوضت بعض الدول الصديقة، مثل قطر الشقيقة ومصر العروبة وتركيا الداعمة، بإدارة بعض جوانب المفاوضات الصعبة والمعقدة. وخلال ما يقارب العقدين من سيطرة حركة حماس على قطاع غزة الصامد، وما تخلل هذه الفترة العصيبة من حروب مدمرة وحصار خانق ومحاولات يائسة للحلول السياسية، كانت الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر تأثيرًا، بل والمقرر في كثير من الأحيان، في مسار ونتائج هذا الحراك السياسي المتذبذب.

ليست وسيطًا عادلاً ونزيهًا بحق

لطالما ادعت الولايات المتحدة أنها تلعب دور الوسيط المحايد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وأنها تسعى جاهدة للوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وأن جهدها الدؤوب منصب على إنجاز ما عُرف بحل الدولتين المتعثر. ولكن المدقق الفاحص في سلوك الولايات المتحدة على أرض الواقع يدرك تمام الإدراك أنها لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا وعادلاً، بل كانت دائمًا تساند الاحتلال الغاشم في سياساته القمعية، وتدعم بكل قوة كل إجراءاته التعسفية التي تقوض بشكل ممنهج كل الفرص المتاحة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. ولعل الشواهد التالية هي جزء يسير مما يؤكد هذه الحقيقة المرة:

  • توفير الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي السخي للاحتلال الإسرائيلي باستمرار، دون ربطه بأي شكل من الأشكال بتطور المسار السياسي أو التقدم الملموس في عملية التسوية السرابية.
  • الامتناع التام عن ممارسة أي ضغوط حقيقية على الاحتلال الإسرائيلي، في أي مرحلة من المراحل، لدفعه نحو أي حل منصف ولو بشكل محدود للفلسطينيين المقهورين.
  • توفير الحماية الدائمة لإسرائيل أمام المؤسسات الدولية، خصوصًا في مجلس الأمن الدولي، واستخدام حق النقض "الفيتو" مرات عديدة ضد القرارات المصيرية التي تخدم المصالح والحقوق الفلسطينية المشروعة، ولصالح تهرب إسرائيل المستمر من التزاماتها الدولية والإنسانية.
  • الاستمرار في التغطية الممنهجة على جرائم الاحتلال البشعة ومجازره المروعة بحق الفلسطينيين العزل، وكانت الإدارة الأميركية على الدوام جاهزة لغسل أيادي قادة الاحتلال المتلطخة بالدماء بعد كل جريمة نكراء يرتكبونها، وخاصة الحروب العدوانية على غزة المحاصرة منذ عام 2008 وحتى يومنا هذا.
  • غض الطرف المتعمد عن الاستيطان الاستعماري الذي ابتلع معظم أراضي الضفة الغربية المحتلة، والتسامح المشين مع جرائم المستوطنين الإرهابيين، مما يعني تقويضًا كاملاً لأي فرصة حقيقية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
  • دعم السياسات الإسرائيلية العنصرية التي تعرقل الحلول السياسية العادلة وتحول دون الوصول إلى أي تسوية سياسية مرضية للطرفين. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك، التسامح مع، إن لم تكن المشاركة الفعالة في، اغتيال القيادات الفلسطينية البارزة والرموز الوطنية الشامخة، بدءًا من الزعيم الراحل ياسر عرفات وصولًا إلى القائد إسماعيل هنية.
  • مساعدة إسرائيل بكل السبل الممكنة في الهروب من الاستحقاق الفلسطيني العادل.
  • مواجهة كل المحاولات والجهود الفلسطينية الدؤوبة، السياسية والقانونية والنضالية، الهادفة لتجسيد الدولة الفلسطينية على أرض الواقع والحصول على الشرعية الدولية الكاملة لها، ومواجهة هذه المحاولات المشروعة على الساحة الدولية، وفي المؤسسات الدولية ذات الصلة.

التضليل العميق والخداع الإستراتيجي الممنهج

لقد استخدمت الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود وحتى اليوم إستراتيجية خبيثة واحدة في التعامل مع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وهي ذاتها التي تستخدمها اليوم بوقاحة في المفاوضات الدائرة لوقف حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة المنكوب. يمكن وصف هذه الإستراتيجية بـ"التضليل العميق والخداع الإستراتيجي الممنهج"، حيث تقوم هذه الإستراتيجية الشيطانية على الإيهام المخادع بأن الولايات المتحدة جادة وملتزمة بإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر منذ عقود. ومن أهم مرتكزات هذه الإستراتيجية الخبيثة:

النفاق السياسي الصارخ والفجوة الشاسعة بين الخطاب والممارسة: بينما تعبّر الولايات المتحدة بشكل متكرر عن رغبتها الزائفة في وقف الحرب الهمجية وعقد صفقة تبادل للأسرى، تستمر في تقديم كل الدعم العسكري والمالي والسياسي اللازم لجيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة. ولا تتورع الإدارة الأميركية عن الاستمرار في الكذب والتضليل، على قاعدة النازي جوزيف جوبلز "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، وتفرض بصلف وغطرسة على أطراف كثيرة أن يصدقوا كذبها ويتعاملوا معه وكأنه حقيقة دامغة.

الاستخفاف المتعمد بالحقوق السياسية الفلسطينية المشروعة: تغاضت الولايات المتحدة تمامًا عن معاناة الفلسطينيين المريرة، ولم تقدم لهم أي التزامات حقيقية تذكر. واستخدمت الدول العربية والإسلامية، وحتى بعض الدول الأوروبية المتذبذبة، لإلهاء الفلسطينيين بالقضايا التفصيلية والثانوية وصرف النظر عن القضايا السياسية الجوهرية المصيرية.

ازدواجية المعايير الفاضحة: تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكل أعمى ومطلق، وتعتبر أمنها خطًا أحمر ثابتًا لا يتغير، وتعتبر الرواية الإسرائيلية الكاذبة مقدمة على غيرها من الروايات. في المقابل، تَصِمُ النضال الفلسطيني المشروع وفصائله المقاومة بالإرهاب، وتصف أعمال المقاومة الباسلة بالوحشية والتطرف، وتشارك بكل قوة في ملاحقة المقاومين الشرفاء وقياداتهم الميدانية بكل الوسائل الممكنة، بما فيها التصفية الجسدية والاغتيالات الممنهجة، دون الالتزام بأي قوانين أو أعراف دولية وإنسانية.

المشاركة الفعالة في إدارة الصراع المعقد: تعمل الولايات المتحدة على تمكين الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق أهدافه الخبيثة قصيرة وبعيدة المدى، ومساعدته بكل السبل في كسب الوقت لإنجاز هذه الأهداف التوسعية. وهي اليوم تستخدم نفس الإستراتيجية الخبيثة التي استخدمتها في إدارة مفاوضات التسوية "أوسلو" السرابية، حين وفرت للاحتلال الإسرائيلي ثلاثين عامًا كاملة لتعميق احتلاله واستيطانه وتهويده للأرض الفلسطينية المحتلة، عبر إلهاء الفلسطينيين والعرب بالمفاوضات العقيمة، وإقامة مؤسسات السلطة الفلسطينية الهشة ومؤتمرات السلام الوهمية.

على الفلسطينيين أن يتعلموا جيدًا من تجربتهم الطويلة والمريرة مع الرعاية الأميركية الزائفة، وهم مطالبون اليوم ببذل كل الجهد الممكن لوضع حد لهذا التلاعب الأميركي الشائن بقضيتهم العادلة، خاصة عندما يكون الوقت من دم. كما يجب عليهم إعادة ترتيب صفوفهم الداخلية، وبناء برامجهم الوطنية وسردياتهم المقاومة وأدواتهم النضالية، بما يساعد على البحث بشكل جاد عن مسارات بديلة تفرض معادلات مختلفة على أرض الواقع، وتدفع بقوة باتجاه إشراك رعاة دوليين آخرين أكثر جدية وإنصافًا.

يجب أن يُنظر إلى السلوك الأميركي المريب في مفاوضات وقف الحرب العدوانية على غزة المكلومة ضمن إطار إدارة المعركة واستكمال أهداف حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الصامد، وينبغي التعامل مع الولايات المتحدة كشريك كامل ومتواطئ في هذه الحرب الشرسة.

على الدول العربية والإسلامية الشقيقة، وأصدقاء الشعب الفلسطيني في كل مكان، أن يكونوا صرحاء وشفافين مع شعوبهم والعالم أجمع بحقيقة الموقف الأميركي المتخاذل، وأن يساعدوا الفلسطينيين بكل ما أوتوا من قوة على التخلّص من قهر هذه الرعاية والوساطة الزائفة التي لم تجلب لهم سوى الويلات والدمار.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة